روائع مختارة | قطوف إيمانية | نور من السنة | يا ابن آدم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > نور من السنة > يا ابن آدم


  يا ابن آدم
     عدد مرات المشاهدة: 2860        عدد مرات الإرسال: 0

إنَّ المتأمِّل في الأحاديث القدسيَّة، وفي صنعتها اللغويَّة الروحانيَّة، يجد فيها من النفحات الربَّانية ومن الفيض الإلهي الذي يقرِّب ويختصر المسافات بين الله- عز وجل- وعباده كثيرًا؛ وذلك من خلال النداءات والخطابات الرائعة المرصَّعة بها ما لا يجده في غيرها من الأحاديث التي تتعلَّق بالأحْكام أو بالترغيب والترهيب، وهذه وقفات مع بعض صحيح هذه الأحاديث الجليلة التي لا يملك الإنسان إلاَّ أنْ يتأمَّلَ في تفاصيلها الرصينة، وفي كلماتها ذات الروحانية المُلفِتة، فتخشع نفسُه، وتذل كبرياءُ رُوحه، وتخضع رقبتُه لله الجليل الكريم، الكبير المتعال.

 

جاء في الحديث القدسي الذي يرويه أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «قال الله: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرْتَني، غفرتُ لك ولا أُبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرة» [1].

وكم هو عجبي من هذا الحديث العظيم الذي يُلخِّص فيه الله- عز وجل- العلاقة بينه- وهو المولَى العظيم- وبين ابن آدمَ ذلك العبد الضعيف العاصي المذنب، فأيُّ عظمة هذه التي تجعل ربَّنا- تبارك وتعالى- يقابل كلَّ تلك المعاصي والآثام التي نقترفُها ليلًا ونهارًا بمغفرة تجبُّ كلَّ الذنوب، وتغسلُ كل الأدناس والأدران؛ تلك المعاصي بكل أشكالها وأنواعها؛ كبيرها وصغيرها، جُلّها ودِقها، عظيمها وحقيرها، سرّها وعلانيتها، قديمها وحديثها، إلا ما كان شِرْكًا.

وتأمَّل أخي إلى جمال تلك اللفظة الرقيقة الراقية التي يستعملها المولَى الجليل في كثيرٍ من الأحاديث القُدسيَّة؛ ألا وهي (يا ابن آدم)، وكأن الله- عز وجل- يريد تذكيرَنا بأبينا آدمَ، ذلك النبيُّ الذي أخرجته خطيئتُه من الجنة، ولكنَّه ما لبثَ أن تابَ وآبَ، ورجعَ وعاد، فقبل الله توبتَه، وكأنَّ الله يقول لعباده من خلالها: لا تنسوا أنَّكم أهل خطأٍ، وأصحاب تقصير، وأنَّكم من صُلب ذلك الرجل الذي أخطأ، ولكنِّي أقبل صادقَ توبتكم.

بل انظر وتأمَّل معي في العلاقة التي يصورها الله- عز وجل- بينه وبين عبده في هذا الحديث القدسي العظيم؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله- عز وجل-: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ هم خير منهم، وإنْ تقرَّب مني شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإنْ تقرَّب إليّ ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولة» [2]. إنها علاقة كَرَمٍ لا حدَّ يحدُّها ولا عدَّ يعدُّها.

إنَّ هذه الأحاديث القدسية الجليلة وغيرها الكثير والكثير تجعلُنا نقفُ وقفات ووقفات مع أنفسنا المقصِّرة؛ نعاتبها، نلومها، نؤنِّبها على ما كان منها، إنَّ هذا الكرم الإلهي يبعثُ فينا رُوح الأمل، ويبثُّ فينا العزمَ على التعجيل بالتوبة، والإسراع بالإقلاع عن المعاصي، والعزْم على عدم العودة إلى مستنقعها الرديء، وإنَّ هذا الفيض الربَّاني ينادي بصوت مسموع لا لَبس فيه ولا اشتباه: أين العُصاة المذنبون؟ أين المسيئون المقصِّرون؟ ها هو مَيدان الخير يرتقبُ، وها هو جَواد التوبة ينتظر مَن سيمتطيه؛ لينال السبقَ العظيم، والفوز الكبير بجنَّة عَرْضُها السماوات والأرض، أين المشمِّرون؟ أين الباذلون؟ أين المُضحُّون؟

{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

إن مثل هذه الأحاديث- وغيرها الكثير- تنتزعُ وتقتلعُ وتجتثُّ من عقول بعض أبناء المسلمين الكثيرَ من الأفكار السلبيَّة والناشئة عن عدم المعرفة التامَّة بالله- عز وجل- ومن أبرزها الانتحار؛ فلماذا تنتحرُ يا هذا؟! أليس لك ربٌّ رحيمٌ كريمٌ، قريب مجيب، تدعوه فيجيبك، وتتوب إليه فيتوب عليك، وتناديه فيسمعك، وتستغفره فيغفر لك؟!

{فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].

إنها تعرِّفنا بمدى كَرَمِ الله، وجلال الله، وجُود الله، ورحمة الله، فتجعلنا نقتربُ أكثر وأكثر من الله، وتجعلنا ندركُ تمامَ الإدراك أن طريقة معاملة الله لنا طريقة كلُّها كرم ورحمة، فالعفو أحبُّ إليه من العقوبة، والرحمة أحبُّ إليه من الغضب؛ {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147]، (أن رحمتي سبقتْ غضبي).

-------------------

[1] - رواه المنذري في الترغيب والترهيب، 2/38، بإسناد حسن.

[2] - حديث صحيح؛ رواه مسلم في صحيحه برقم: 2675.

الكاتب: نوفل علي الجبلي.

المصدر: موقع الألوكة.